هبة السويدى.. سيدة بألف ألف رجل
بقلم د. عمار على حسن ١٢/ ٧/ ٢٠١٢
بقلم د. عمار على حسن ١٢/ ٧/ ٢٠١٢
قبل الثورة بسنين، قامت بتدريس التربية الدينية للأطفال فى جمعية «الزهراء»، ودارت على ملاجئ الأيتام، لتكفكف الدموع وتطلق الفرح فى عيونهم البريئة، وغبرت حذاءها غالى الثمن فى الشوارع المتربة للأحياء العشوائية، لتباشر تنفيذ مشاريع الصدقة الجارية، حيث السواعد المفتولة وماكينات الحفر التى مدت تحت الأرض قليلا مواسير لمياه الشرب النظيفة لهؤلاء المحرومين. تخرج من الخنقة إلى المسافات المفتوحة وشعرها الناعم يهفهف فى النسائم العابرة، لكنه لا يحرك الصمت اليقظ داخلها، الذى يمنعها دوماً من أن تتحدث عما تفعل.
لكن صمتها انكسر ذات مساء وهى تطالع الشاشات والورق الطويل العريض لصحف تتدفق يوميا عن الشهداء والمصابين. صرخت من أعماق قلبها وهى ترتجف أمام شاشة التليفزيون: «حرام عليكم يا ظلمة».
وما إن ارتفعت الشمس قليلا فى كبد السماء حتى كانت قد أنهت اتصالها بكل من يعنيهم أمر اللحم الذى يتمزق، والدماء التى تسيل، والعيون التى يفقؤها الرصاص، والصدور التى يخنقها الغاز، والعظام التى تدهسها المصفحات التى لا قلب لها. وفى اليوم التالى كانت عربات الإسعاف تنقل أصحاب الإصابات الخطيرة من المستشفيات البسيطة التى ليس بوسعها أن تعالجهم إلى مستشفى قصر العينى الفرنساوى، بعد أن اتفقت مع إدارته على تخفيض نصف تكاليف الجراحة والعلاج، ثم ساهمت فى نقل الحالات الأكثر خطورة إلى ألمانيا والنمسا والسويد، ليعالجوا هناك مجاناً، ذهبت مع بعضهم إلى المطار، وربتت أكتافهم، وطبعت قبلات على جبين أولادها المعلقين بين الحياة والموت. وحين عادت قال الناس فى قلب الميدان الكبير الذى يطوق ذراعيه على مئات الآلاف من البشر: «أنت أم المصابين».
وفى مكتبها، فتحت إدارة كاملة لمتابعة كل شىء، ومعها صاحبتاها «غادة أحمد»، والحاجة «صالحة».. تنقر على «الكى بورد» فتوثق بيانات المصابين، كل شىء عن الأسماء والعناوين والأقارب الذين يقفون ملهوفين أمام مبانٍ تنبعث منها روائح الفينيك والميكروكروم والعتمة المثلجة، وكل شىء عن مواعيد العلاج ونفقاته والأطباء الذى يتابعون ويبذلون كل جهد مستطاع فى سبيل تخفيف الألم ومنح الأمل، وكذلك النفقات التى تم صرفها، وما تبقى، وكيف يمكن تدبيره؟
حين تجلس مع نفسها بعد انقضاء شهور العطاء والعذاب واللهفة تحل برأسها صور الذين سكبت فى أفواههم المنفرجة قليلاً جرعات ماء تروى لحظة الرحيل، وأولئك الذين مدت يدها الرقيقة لتغلق جفونهم المنبلجة على الفراغ، والذين ندت عنهم آخر آهة توجع قبل الصمت الدنيوى الأبدى.
لا يمكنها أن تنسى أبدا سامح عبدالرحيم الذى مات بعد ٤٠ يوماً من إصابته بطلق نارى بالعنق يوم جمعة الغضب، كانت إلى جانبه وهو يرفرف مودعاً كل شىء وراء ظهره.. أشياءه وأمانيه. وكم شعرت بالعجز وروحه تصعد إلى بارئها! وكم تمنت وقتها لو كان بيدها أن تمنحه بعض الوقت ليطلق فى العتمة الحالكة أحلاما جديدة!
ولا يمكنها كذلك أن تنسى محمود قطب الذى دهسته سيارة دبلوماسية فزعة بشارع قصر العينى كانت تحاول أن تهرب بعيدا عن حشد من المتظاهرين. كان الأطباء يتابعون حالته الميؤوس منها ويقولون لها: «وفرى المال لآخرين! هذا الصبى أيامه فى الدنيا معدودة».
لكنها كانت تصر على أن تستمر فى علاجه وهى تضع نفسها مكان أمه التى تغرف بكفيها كل يوم دموعاً لا تكف عن الهطول، بعضها ينسكب على شفتيها المقددتين حزنا فتبتلان قليلاً، وبعضها يتسرب إلى جوفها المعجون بطعم الصبار فيمنحه بعض الملح الذى يخفف المرارة قليلا.
وذات مرة، صرخت فى وجه طبيب طلب منها ألا تتعب نفسها ومالها: «لو كان ابنى كنت سأفعل المستحيل حتى آخر لحظة».
لكنه فارق الحياة فى الثالثة فجرا، بالضبط بعد خمسة أشهر من إصابته، ونزلت هى فوراً من بيتها لتلقى نظرة الوداع عليه. وبعد أيام قليلة كانت فى قاعة النساء بمسجد عمر مكرم تتلقى عزاءه.. ألم يكن ابنها؟
كلهم كانوا أبناءها أو إخوانها، ومن أجلهم تحاملت على نفسها ووقفت ذات عصر على المنصة الكبيرة فى ميدان التحرير لتقول للناس فى كلمة مقتضبة وعفوية لكنها عميقة ومؤثرة: «لا تتركوا أياً منهم يواجه الموت وحيداً».
تجلس فى ساعات الراحة أمام التليفزيون ترى وجوها كثيرة وتسمع كلاما فى كلام، تبتسم حين تسمع أولئك الذين يفرطون فى الحديث عن حقوق الشهداء والمصابين. تسخر منهم جميعا وتقول: «لم يأت أحد منهم ليخفف عن المصابين. طلبتهم كثيرا لكنهم مشغولون بالثرثرة أو اقتناص السلطة».
لكن هذا لم يحبطها، كانت تغمض عينيها حيال كل شىء، ولا ترى أمامها إلا ما تسعى هى للوصول إليه. فلا يوجد عندها أبدا أولى من رتق جرح ينزف، وجبر عظمة مكسورة، وكفكفة دموع أم ثكلى. وكانت تقول لنفسها دوما: «أنا أعمل فى النصف الحقيقى من الثورة».
إنها سيدة بألف ألف رجل، اسمها هبة السويدى، تأخرت طويلا فى تحيتها، فلها اعتذارى، وأرجو أن أكون قد وفيتها هنا بعض حقها عن كل المصريين، وفى مطلعهم الثوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق